ولد المجاهد لعماري محمد بن عبد القادر المدعو المقراني سنة 1932 بمدينة البيض التي كانت تسمى آنذاك بجرفيل و التحق بالحركة الوطنية بالبيض وعمره لا يتعدى 13سنة فكانت الحركة بمثابة مدرسة جبلية ثورية تعلم على مقاعد ربواتها و صخور شعبها وتحت نور خيمها النضال وحب الوطن الفعلي وكيفية الدفاع عن كيانه . وقد تم تشكيل لجنة الحركة الوطنية بالبيض سنة 1945 من طرف كثير من المناضلين أتى المجاهد لعمار يعلى ذكرهم في مذكراته بالتفصيل.
وقد استمر نشاطه داخل لجنة البيض فأدى ذلك بالسلطات الاستعمارية إلى اعتباره من الخارجين عن القانون والمتمردين ضد السلطة الفرنسية و التي لم تدخر جهدا لإلقاء القبض عليه .
انتهى هذا النشاط فتحمل مسؤولية تكوين لجان خارج البيض وبالضبط في الكاف لحمر وبوقطب و الرقاصة و بوعلام و بريزينا و بوسمغون و الربوات و الأبيض سيدي الشيخ و العين الصفراء و المشرية و عين ماضي و الأغواط و عين سيدي علي أولاد يعقوب بنو هلال (أفلو) و بريدة (أفلو) و الغيشة (أفلو) وتاجرونة (أفلو) و مدريسة (تيارت ) و سوقر (تيارت) . كما كان له اتصال بالدكتور نقاش الذي كان بوهران آنذاك , فكانت اتصالاته دعما سياسيا ومساهمة بالأدوية .إن اللجان التي كونها بين 1950و 1954 تتشكل من مجموعة من المناضلين المخلصين بكل المناطق والمدن المذكورة سابقا.
من1950 إلى 1957 :
لقد كان من حملة التدابير الرئيسية التأهب سنة 1954 لخوض غمار المعركة المسلحة وذلك عن طريق إعداد جنود مسلحين قد تم إعدادهم و استعدادهم فانتقل الأمر حينئذ من الحركة الوطنية إلى المسؤول الرئيسي و هو المجاهد عبد الحفيظ بوصوف المدعو سيي مبروك و المكلف من طرف جبهة التحرير الوطني بالولاية الخامسة .
كانت تصل المجاهد لعماري محمد أوامر القيادة وتعود إليه تقاريره عن نشاط الهضاب العليا عن طريق المناضل محمد قاضي ( وزير البريد والموصلات في عهد الاستقلال ) .
إن التأهب لانطلاق الثورة التحريرية المسلحة أشتمل على تحقيق أمرين اثنين هما :
1)- جمع الذخيرة والأموال : ولقد كان للمجاهد لعماري محمد دورا بارزا في القيام بهذه المهمة الصعبة
2)- إعداد الجنود الذين تم تسليحهم وتجنيدهم لخوض المعركة
, بعد أن تمت عملية التجنيد على أحسن وجه , سار المجاهد البطل يترقب أوامر القيادة للولاية الخامسة فكان أول أمر يتمثل في تحصله على مسؤولية منطقة الهضاب العليا الشاملة للبيض والأبيض سيدي الشيخ وأفلو و الأغواط وثاني أمر في أن يقتصر على الدفاع عن النفس فقط وذلك في حالة هجوم العدو.
وأعطى الأمر للمناضلين المجندين تحت مسئوليته بأن يمكثوا في ديارهم حتى تصدر الأوامر من القيادة في الوقت ذاته كان يتنقل باحثا على مزيد من الأسلحة والذخائر قائما بالتوعية المتواصلة دون استقرار في مكان واحد نظرا لتربص الاستعمار به وملاحقته المستمرة له خاصة وقد رصدت أموالا مغرية وأثمان باهظة لتقديمها لمن يتعاون معه في إلقاء القبض على المجاهد لعماري محمد .
وترتب على ذلك أن اتخذت السلطات الاستعمارية الفرنسية إجراءات إرهابية ضد عائلة المجاهد لعماري محمد , و تضاعفت هذه الإجراءات بنفي عضوا من أسرته إلى تندوف بهدف قطع صلته مع عائلته للنيل من عزيمته وإضعاف جهده فلم يزده هذا الحادث إلا قوة .
فقد قام المجاهد لعماري إثر هذه الحوادث بتبليغ القيادة بما جرى وذلك بالاتصال مع محمد قاضي ( وزير البريد والموصلات في عهد الاستقلال ) الذي كان يعمل بالبريد ببوقطب ( ولاية البيض ) فكان دائم الاتصال بالمجاهد بوصوف قائد الولاية الخامسة . تم الاتصال بالأخ محمد قاضي وتبليغه تقريرا حول الحوادث فاغتنم فرصة التنقل لتفقد أحوال المناضلين المجندين الذين هم في انتظار الأوامر في ديارهم وذلك بغية الإطلاع على معنوياتهم التي كانت جد مرتفعة وإخبارهم أيضا بأن الأوامر بالتحرك لم تأتي بعد . فكانت مثل هذه التنقلات تغطي مسافات شاسعة أدناها 2000 كلم مربع كان يقطعها راجلا في بعض الأحيان وعلى حصان في أحيان أخرى .
وفي خريف سنة 1954 أتصل المجاهد بجماعة من البيض وكان آنذاك برفقة الاخوة : نوري البشير والأخ عبد القادر ولد المجدوب .
ففي الوقت الذي كانوا يستعدون للقاء مع جماعة من المناضلين من البيض أمام مزرعة برابح الحاج أحمد القبلاوي كانت الساعة الواحدة صباحا وذلك على بعد خمس (05) كلم من مدينة البيض في ذلك الوقت فاجأتهم مجموعة من العساكر الفرنسية التي كانت تأمرهم برفع الأيدي فأعطى المجاهد لعماري محمد الأمر لرفاقه بالانبطاح وأطلق برشاش متوسط طلقات أسقط على أثرها مجموعة من عساكر العدو وفعل الإخوان اللذين كان معه مثله فأطلق العدو طلقات نارية تناثر من جرائها الغبار والحصى . بعدها رصاصات ولكنها لم تصبه بسوء.
فأشتد تبادل إطلاق النار فانسحب مجموعة العساكر في اتجاه البيض من حيث أتت. وبعد أن استعاد المجاهدين أنفاسهم كان أول ما فكر فيه قائدهم المجاهد لعماري محمد هو الانتقال إلى مركزين سريين كان يخفي فيهما السلاح والذخيرة الحربية قرب البيض بحوالي07 كلم في اتجاه الأبيض سيدي الشيخ في مكان يدعى بالدفيلية .
فأخبر المجاهدين القائمين على حراسة المكان بالمعركة التي وقعت في تلك الليلة وأعطى الأوامر بإخفاء الأسلحة والذخيرة الموجودة في المركزين وكذلك المزيد من العدة بالإضافة إلى التزام الحذر واليقظة تحسبا لمجيء العدو في الصباح من أجل تفتيش المنطقة بحثا عنهم. ثم بعد ذلك توجه مع رفاقه الاثنين إلى جبل مقرس على بعد 30 كلم من البيض في طريق سعيدة وبعث الرفيقين كل واحد حيث أمره باستقرار وانتظار الأمر منه وتوجه إلى بوقطب للاتصال بمحمد قاضي من أجل تبليغ قائد الولاية الخامسة عن طريق تقرير وافر عما حدث من أجل استلام الأوامر الصادرة من القيادة , فلم يتغير شيء فيما يخص الأوامر السابقة والواردة من قيادة الولاية الخامسة و لكن تقريره لها كان يخبر بإلحاح أن المناضلين المجندين قلقين تحدوهم العزيمة في ذلك وهم يترقبون ليل نهار أمر اندلاع الثورة.
التحق بالأخوين الذين تركهما بجبل مقرس وانتقل إلى بلدية عين ماضي ولاية الأغواط وأفلو ولاية الاغواط والبلديات التابعة إلى أفلو يرافقه في ذلك مجموعة من رفاقه , كانت مهمته طمأنة المناضلين المجندين وتوصيتهم بصبر والانتظار ثم عاد إلى بوقطب للإطلاع على الأوامر الصادرة من القيادة تاركا ورائه بالكاف الأحمر رفقائه فأبلغه مسئول الاتصال الأخ محمد قاضي بأنّ الأوامر لم تتغير بعد.
بعد هذه المقابلة مع السيد محمد قاضي عاد فورا إلى جماعته المتواجدة بالكاف الأحمر فأمرهم بنصب كمين لحافلة كانت تربط ما بين مشرية عنتر والبيض كانت من ملك يهوديين هما زنقوط وليفي وقع ذلك الكمين قرب جبل مقرس على بعد حوالي 35كلم من البيض فتم حرق الحافلة وكذلك على قرب منها حقلين للحلفة . وعلى أثر ذلك انتقلوا إلى مكان يدعى الحيرش على بعد 40 كلم من البيض في الطريق الرابط بين البيض والأبيض سيدي الشيخ حيث قاموا بحرق شاحنتين كانتا تنقلان الحلفة لفائدة المعمر الإسباني القاطن بقرية بوقطب آنذاك والمدعو (مانطراز) معاقبة له على إفشاءه دعايات مضللة ضد الشخصيات الثورية في أوساط الشعب وغير بعيد على هذا المكان أحرقوا حقلين للحلفة كان يستغلهما المذكور بقرب عين العراك بالقويرات أولاد مالك .
ويضيف المجاهد في مذكراته:
( لقد طالعنا فجر سنة 1955 ولم تتغير أوامر قيادة الولاية الخامسة , فقررت أول عملية هجومية توخيت منها قافلة من الشاحنات العسكرية التي كانت ترافق الحافلة التي تربط سعيدة بالبيض على بعد 17 كلم من البيض نصبنا كمينا على مستوى الجسر الذي كان يدعى بقنطرة أولاد سعدون , وفور ذلك الكمين سمي الجسر بقنطرة لعماري ولازال الجسر يدعى كذلك إلى الآن .دام الكمين أكثر من نصف ساعة في شكل تبادل طلقات من الرصاص استعملنا فيه الرشاشات المتوسطة فلم يصب أحدا منا بسوء في حين نالت رصاصاتنا عددا كثيرا من عساكر العدو .
جاء هذا القرار بنصب الكمين مني منافياً لأوامر قيادة الولاية الخامسة ولكن مجموعة من العوامل التي أملت علي القيام بهذا الهجوم أهمها أن البعض من المناضلين المجندين خاصة و المواطنين الذين ساهموا بالعتاد والأموال واللباس عامة كانوا قلقين لدرجة أصبحتُ أخشى معها تفكك الصفوف وفساد كل ما رتبناه عبر سنين طويلة مضت .
لم أعد وقتئذ أستطيع أن أقنع أحدا بالصبر والانتظار المفروض علينا من قبل مسئولي قيادة الولاية الخامسة لاسيما وان الظلم الذي يتصاعد كل يوم وليلة قد نال من صبر الصابرين فلم أجد سبيلا أمام هذه الوضعية سوى المحافظة على الكسب الثمين والمتجسد في ثقة المناضلين المواطنين الأحرار عامة .
إنّ لهيب الثورة الذي تسعر لم تعد تستطيع الجبال إخفاءه فكان لابد من أن يرمي بشرارته نحو السهول والبطاح حيث تنعم شرذمة من الفرنسيين المعمرين . لقد كان حتما علي وعلى ثورة جبهة التحرير الوطني أن نبرهن للمترقبين من أبناء شعبنا المجيد بأن ثقتهم بنا وجهودهم معنا وسهرهم لا يمكن أن يذهب ذلك كله صدى .
لقد أصبح الموقف حرجا فكيف يمكنني الآن أن أوفق بين أوامر الولاية الخامسة وتهيج المناضلين الذين يرون في حالة الانتظار خمولا لا مبرر له .
أدى القيام بهذه العمليات المذكورة أعلاه من نصب الكمين وحرق وتخريب إلى أن قطعت الاتصال المباشر مع محمد قاضي إلى غاية سنة 1956 ولكن نشاطي استمر مع تجنيد المواطنين وتفقد أحوال المجندين من قبلهم وعادت الأمور إلى مجراها السابق , إذ تم الاتصال بيني وبين محمد قاضي مرة أخرى بواسطة مبعوثين اثنين بقيادة الولاية الخامسة , إن الأوامر لم تتغير لكن أطلعت على أن 95 جنديا قادمين من الولاية الخامسة وعلى رأسهم مسئولين اثنين أحدهما مسئول سياسي يسمى محمد بن أحمد المدعو مراد و الثاني مسئول عسكري اسمه مولاي الطاهر المدعو مولاي عبد الله وان علي أن انتظرهم بمركز الموجود بحمام ورقة دائرة عين الصفراء .
تنقلت بعد ذلك إلى الأبيض سيد الشيخ وزرت في طريقي السيد بن يوسف الحاج محمد بن الواسيني بجبل القمر والذي كان يعد من الرجل فأشار لي بأن رجلين يريدان مقابلتي ولم يخبرني بهويتهما .
انتقلت إلى حمام ورقة حيث مكثت أسبوعا كاملا في انتظار السيدين القادمين من الولاية الخامسة , فلم يأتي أحد وعدت إلى بوقطب فأطلعت محمد قاضي بأن الجنود المنتظر قدومهم من الولاية الخامسة لم يصلوا بعد فأفادني بأنه سيخبرني بمجيئهم في الوقت المحدد لهم .
وعدت قاصدا الأخ بن يوسف محمد بالواسيني لمقابلة الأخوين نزولاً عند رغبتهما ، وتم اللقاء بيننا وتقدم الإخوان مولاي إبراهيم وبن يوسف بوشريط بطلب مرافقتي في السراء والضراء وأخبرني بأنهما مبعوثين من طرف مولاي محمد من البيض و صرحا لي بأنهما لا يعرفان في البيض سوى الأخ المناضل مولاي محمد ولا يعرفان خارج البيض سواي و أنهما يسعدهما أن أقل لهما لأني قديم في النضال والتمرد على السلطات الاستعمارية منذ سنين طويلة ولقد كان الأخوان مسلحين بستاتيتين من صنع إيطالي وسجلت طلب انضمامهما لأنني أبحث عن الأسلحة والرجال , ولكن توجهت إلى الأخ محمد قاضي فأبلغته بتقرير حول الأخوين الاثنين مولاي إبراهيم وبوشريط وأفادني مسئول الاتصال الأخ محمد قاضي بأن قيادة الولاية الخامسة تأمرني بقبول انضمامهما ولكن شريطة أن لا أطلعهما على السر ولا أمكن لهما الاتصال مع أحد من المناضلين السابقين أو المسؤولين كما أكدت التعليمات على الانتظار وعدم القيام بأي عملية ولكننا انتقلنا إلى حمام ورقة لانتظار الجنود القادمين من قيادة الولاية الخامسة , فمكثنا هناك خمسة أيام ولم يأتي أحد , رافقني في هذه الرحلة القصيرة الأخوان : نوري البشير ولد إبراهيم ولد بوعلام وبوشريط بن يوسف ولقد كانت أول مرة يشارك فيها الأخ بوشريط ولكن مولاي إبراهيم لم يشارك بعد.
وفي طريق عودتنا وقريب من حمام ورقة في المكان المعروف بثنية الجمال على الطريق الرابط بين بوسمغون وحمام ورقة حيث تزدحم المنعرجات في أعماق الجبال طلبت من الأخ نوري البشير أن يبحث عن دلو ماء تركناه على أعلى الهضبة وتسلق الصخرة التي تعلو الهضبة ،إذا بي أسمع دوي محرك كبير يرتد صداه من أعلى الجبال فظنناه صوت قافلة عسكرية للعدو الفرنسي . وتعالت الأصوات فلم يعد من الفرار فائدة فأمرت الأخ بوشريط باحتلال مقدمة المنعرج وتوضعت في مؤخرة المنعرج لمحاصرة القافلة وطلبت منه أن لا يطلق الرصاص حتى تتوغل الشاحنة الأولى بيننا ففعل . وتوسطت الشاحنة المنعرج فأطلقت طلقات بالستاتي فتكسر الزجاج أمام وجه السائق ولم يتحرك شيء ،فتوقفت الشاحنة التي كانت منفردة ونزل منها راهبان اثنان يرفعان الأيدي ويصرخان ....آباء بيض ...آباء بيض…..فسارع الأخ بوشريط قبل أن يطلق الرصاص وأنا بدوري وتأكدنا فعلا أن ليس في الشاحنة سوى أربعة آباء بيض ومهندس و قد هلك اثنان من الآباء البيض والمهندس فتأسفت للباقين منهم و أخبرتهما أننا نحسبهم قافلة عساكر وأطلقنا سراحهما.
ثم توجها( أي الراهبان ) إلى حمام ورقة حيث أطلعا السلطات العسكرية بما جرى و تعرف العدو على هويتي من خلال الأوصاف التي قدمها الراهبان وحكمت علي محكمة معسكر غيابيا بالإعدام باعتباري مجرما وخارجا عن القانون و صبيحة الغد وفي المكان الذي يدعى عين بوداود ببلدية اربوات دائرة الأبيض سيدي الشيخ أحرقنا شاحنة لنقل الحلفة وكذا حقلين من الحلفاء فكانتا عمليتين اثنتين شارك فيهما الأخ بوشريط إلى جانبي وبهما انتهى عملنا المشترك.
و للمرة الثالثة وفي ربيع 1956 جاء الأمر عن طريق محمد قاضي بالذهاب إلى حمام ورقة لاستقبال الجنود القادمين من الولاية الخامسة وبعد خمسة أيام من الانتظار قدم الجنود فكان فعلا عددهم 95 على رأسهم مسؤولان أحدهما سياسي و الآخر عسكري وهما بن أحمد محمد المدعو مراد والثاني مولاي الطاهر المدعو مولاي عبد الله فقام الأخوان القادمان من الولاية الخامسة بتقسيم الجنود إلى ثلاثة مجموعات ، حيث تتكون المجموعة الأولى من ثلاثين جنديا أسندت مهام المسؤولية عليها للأخ بوشريط كما أسندت مهام المجموعة الثانية المماثلة للأولى من حيث العدد للأخ مولاي إبراهيم الذي لم يكن حاضرا وقتئذ في حين تكفلت بمسؤولية الجنود الخمسة والثلاثين الباقين.
وتم هذا التقسيم بحضور الاخوة النوري البشير ولد إبراهيم ولد بوعلام وهما من الكاف لحمر وبن زيادي قدور بن سالم والهاشمي عبد القادر بن مسعود وهما من الرقاصة ، وخلوفي محمد بن الحاج بحوص من الأبيض سيد الشيخ وبن يوسف بوشريط وعلى إثر هذا التقسيم لم أعد ألقى الأخ بوشريط إلى أن علمت بوفاته.
أما المسئولان الباقيان فقد طلبا أحدهما وهو ابن أحمد محمد مراد بأن ينتقل إلى مدينة وهران فكلفت المناضل أحمد بالسايح بمهمة نقله إلى حيث طلب تحت هوية مزورة أما الآخر فرافق الأخ بوشريط بن يوسف.
وجاء الأمر الذي طالما انتظرته والذي يمكننا من إشفاء الغليل في المستعمر ألا وهو أمر اندلاع الثورة المسلحة وباشرت العمل متحررا من قيود أوامر الانتظار فنصبت كمين بمكان يدعى الزويرق في الطريق الرابط بين البيض وسعيدة على بعد 29 كلم من البيض ،كانت الساعة الثالثة مساءا حينما نصب الكمين فدام ثلاث ساعات كان عدد المجاهدين يناهز 40 جنديا من ضمنهم 06 جنود ممن قدموا من جيش الولاية الخامسة ، في حين كان عدد القوات الفرنسية التي نصب لها الكمين يفوق 40 شاحنة وتلاحقت الطائرات و الدبابات للعدو من البيض ، حيث كانت خسائر العدو فادحة و 06 شهداء من المجاهدين وفي ذلك المساء نفسه وعلى الساعة التاسعة وصلنا إلى دوار القايد الشريف قايد أولاد عبد الكريم المتعاون مع فرنسا منذ عهد بعيد .
وفي المكان المسمى بالحلق على بعد 30 كلم من البيض على الطريق الرابط بين البيض و الأبيض سيد الشيخ قمنا بمحاصرة الدوار فوجدنا أبناء القايد وخليفته فاستولينا على خمس بندقيات من نوع فرنسي وثلاث مسدسات وأحرقنا الدوار ولكن القايد الشريف قد نجى بنفسه لأنه كان غائباً ، وعلمت السلطات الاستعمارية بذلك فحكمت محكمة معسكر علي بالإعدام غيابياً.
ولما عدت إلى الرفاق بجبل بسباع بلغني خبر بواسطة محمد قاضي بأن مسؤولا من الولاية الخامسة سَيَقْدُمُ وأن علي أن أستعد لاستقباله وتم اللقاء بيننا في قرية بوسمغون ولقد كانت أول فرصة لي ألقى فيها الأخ قايد أحمد المدعو (الرائد سليمان ) كان المجاهد قايد أحمد يحمل رخصة للمرور تعرف بهويته كمراقب مدني وعسكري كما سلمني رسالة خاصة من الأخ المجاهد عبد الحفيظ بوصوف تأمر بتبديل الأسماء الحقيقية بأسماء ثورية لقبت بموجبها بالمقراني ولقب مولاي إبراهيم بعبد الوهاب وبشريط بن يوسف بلحسن , كما أمرت بتوزيع الجيش إلى ثلاثة أقسام يترأس كل واحد منا قسما منه وأمرت أيضا بدخول أفلو للقيام بأول معركة أما رابع الأوامر فكان المطالبة بجمع عشر الثروة التي يملكها الشعب الجزائري تدعيما لصفوف جيش التحرير الوطني وكما عين الأخ المجاهد شداد أحمد نائبا لي ومسئولا عن جمع الأموال , انتهت الرسالة بإبلاغي رسميا بأن المسؤول الجديد والمكلف بالمنطقة الثامنة هو العقيد لطفي فكان هذا التقسيم جديد العهد تكون فيه المنطقة الثامنة هذه تابعة للولاية الخامسة .
وفي اليوم الثاني من شهر أكتوبر 1956 انطلق أول قرطاس في أفلو بمكان يدعى بالرقايق وبالشويحية قرب تاويلة بين البيض وأفلو, انطلقت المعركة على الساعة الثالثة مساءا من هذا اليوم الثاني أكتوبر 1956 إذ نصب كمين للجيش الفرنسي , كانت خسائر العدو فادحة في الأرواح والعتاد التي حرقت عن أخرها وغنمنا 73 بندقية مختلفة الأنواع و8000 قرطاس من الذخيرة ومذياعين للاتصال كما ألقينا القبض على ضابطين وثلاثة من العساكر ،في حين لم يستشهد سوى مجاهد واحد فقط وفي اليوم الثامن من نفس الشهر (أكتوبر 1956 ) وفي الموقع المسمى بالصفصاف بلدية بوعلام دائرة البيض علمت بوفاة الأخ بوشريط لقد كانت مفاجأة حقا لأني كنت على يقين بأن بوشريط الذي كان يقود جيشا لم يدخل في معركة واحدة قبل موته ، ولما سألت عنه الإخوة عبد الوهاب وابن أحمد محمد مراد و نور البشير الذي كلف بقيادة الجيش التابع للشهيد بوشريط أخبروني بأنه غائب في مهمة وصرح لي الأخ الشهيد بن يوسف الحاج محمد بالحاج الواسيني وهو أحد أقربائه بأنه شهد دفن الأخ بوشريط ولكنه يجهل أسباب وفاته وعلى إثر هذه الظروف الغامضة لموت الشهيد بوشريط طلبت بأن تعقد جلسة طارئة قصد البحث والتحقيق في أسباب موته إن جواب الإخوة الثلاثة بأنه ليس لي حق التدخل في شؤونهم وفي قضية تعنيهم بالدرجة الأولى لأن بوشريط من أهلهم ،فقلت لهم لا يوجد بيننا أجنبي وكلنا إخوة جزائريون وبما ذا نجيب القيادة عن وفاته فرد مراد مهدداً: لاشك أنك فخور بالمعارك التي انتصرت فيها ، اليوم ستعود وحدك خير لك من أن لا تعود ...... ! فنهضت من مكاني منادياً الجيش التابع لي فامتثل في نظام وقدمت المسئولين الثلاثة قائلاً هؤلاء الإخوة هم : عبد الوهاب ومراد ونور البشير لقد مات بينهم الأخ بوشريط فتفضلوا إن كنتم تريدون القتال بجانب هؤلاء .... وإن كنتم تريدون محاربة الجيش الاستعماري بجانبي فأهلاً جميعاً بأوامر جبهة التحرير الوطني فردوا كرجل واحد : ليسقط عبد الوهاب ومراد ونور البشير ولتحيا الجزائر وليحيا لعماري المقراني ، وتصاعد غضب الجيش وهم بقتل المسئولين الثلاثة المتورطين في وفاة الشهيد بوشريط ،ولولا الحكمة والهدوء وثقة الجيش بي لما نجا أحد من المسئولين الثلاثة . وانتقلت بعد هذا الحادث المؤسف بجيشي وحملّت شداد أحمد تبليغ القرار إلى القائد لطفي ورافقه في هذه المهمة الأخ لعجل فتحي(صحافي بالإذاعة الجزائرية الآن ) وكذا الأخ يحي أحمد من سكان الحراش بالجزائر .و مرت أيام ثم دارت المعركة عين سيدي علي أولاد يعقوب بنو هلال)أفلو ) كانت هي الأخرى عبارة عن كمين نصب لحافلة مدنية ترافقها شاحنة عسكرية تقلى على مثناها 140 بندقية صيد قد استولت عليها السلطات الفرنسية من يد المواطنين لمنعهم من مشاركة جيش التحرير الوطني فأخذنا السلاح وحرقنا الحافلة وقتلنا 17 عسكري وفر الباقون بالشاحنات وفي نفس السنة وقعت معركة خنق الأكحل على بعد 08 كلم في طريق تيارت وكان أيضا عبارة عن كمين نصب في المساء.
شارك في هذه المعركة 208 مجاهدا وعدد الشاحنات المكونة للقافلة حوالي 70 شاحنة عسكرية فرنسية دامت المعركة وتبادل إطلاق النار حوالي ساعة ونصف فتحول الكمين إلى معركة حقيقية لم يستشهد واحد منا ولم يصب واحد بجروح أما القافلة الفرنسية فتكبدت خسائر فادحة في الأرواح حتى سقط الليل.
وتلتها معركة أخرى هي معركة حد الصحارى شرق سوقر ولاية تيارت كانت ضد الجنرال بلونيس خائن الوطن أسر فيها 35 عسكريا وقتل 45 آخرون من بينهم نائب الجنرال المسمى سعيد واستولينا على 05 ملايين فرنك قديم وكذا على خاتم الجنرال .
وبعد أيام علمنا بوجود 21 جندي من جيش الجنرال بلونيس خائن الوطن في شبكة واد ميزاب (غرداية ) فتوجهنا إلى المكان المذكور حيث حاصرناهم فاستسلموا جميعا دون مقاومة فوجدناهم من المواطنين الجزائريين فجندناهم في صفوفنا .
وفي السابع من شهر ديسمبر المبارك سنة 1956 شهدت المنطقة الثامنة معركة عظيمة لم تشهدها من قبل ولا من بعد ألا وهي معركة بوقرقور المعروفة بجبل العمور سجلنا بفضلها أنبل وأعظم صفحة في تاريخ المنطقة كانت الساعة السابعة صباحا حين انطلقت المعركة ودامت خمس ليالٍ وخمس أيام فكان الليل يعد نهارا نظرا لاستعمال القوات الفرنسية للأضواء الكاشفة . شاركت فيها القوات الجوية للعدو بـ :35 طائرة مقنبلة وقوات جنرال الجزائر العاصمة وقوات جنرال وهران وذلك كَرَّدٍ على الرسائل التهديدية التي كنت أبعثها إلى السلطات العسكرية الموجودة بالمنطقة الثامنة كانت إحدى رسائلي قد علمت بها زوجة الرائد روجي أعوج الفم قائد القوات العسكرية المتواجدة ببلدية بوعلام دائرة البيض فأصيبت بجنون من شدت الهلع .
إن مبرر حشد هذه القوات التي حشدتها السلطات العسكرية في المنطقة لمحاصرتي هو الفشل المستمر في إلقاء القبض علي في الجبل .
وكونت العساكر الفرنسية حصارها المتكون من خمس أحزمة دائرية فاستشهد 25 مجاهدا يضاف إلى ذلك عدد من المواطنين ممن كانوا يرافقون قوافل التموين بدون سلاح وأسر 04 مجاهدين من الجرحى، وتحطمت أمام أعيننا طائرتان للعدو . إن خسائر الجيش الفرنسي كانت باهضة تفوق 1600 جنديا من فرنسيين وسنغاليين , أما دماء الجرحى منهم فكانت تتدفق على طول الطريق الرابط بين أفلو و تيارت باعث في أوساط المواطنين الفرحة والاعتزاز بثورة نوفمبر و وصلنا بعد انتهاء المعركة من الأخبار الواردة عن طريق مناضلي جبهة التحرير الوطني المتواجدين بالخارج , إنه تم تسجيل معركة بوقرقور بجبل لعمور كأعظم معركة عرفتها الجزائر في التراب الوطني كلها قبل هذا العهد .
إن المجاهدين المشاركين في هذه المعركة الكبرى قد برهنوا على استعانتهم أمام الحشد العملاق للعدو , كما أثبتوا عزيمتهم في فك الحصار المضروب عليهم مبرهنين على معرفة عالية بفنون الحرب رغم قلة العدد ورغم عدم تكافؤ القوتين فكنا استطعنا الصبر إلى أخر لحظة بفك كل ليلة حزام من الأحزمة الخمسة المحاصرة لنا، واندهشنا حينما أفلتنا من الحصار إذ علمت وأنا أتفقد الأعتاد المتبقية بأنه لم يبق سوى قرطاس واحد لكل عشرين جندي .
إنها أيام خالدة لازلت أذكرها وكأنها اليوم , حيث كنت أسمع عن طريق الإذاعة الفرنسية وهي تصرح بأنها قد هزمت قائد جبل العمور لعماري الذي استسلم ,وقد كان المواطنين يعتقدون بأن المجاهد لعماري وجنوده لايموتون أبدًا لأنهم يحاربون الطائرات واقفين والأماكن مكشوفة دون تعرضهم لأي خطر .
لقد كان همي الكبير أيام المحن التفكير كل يوم وليلة في وسائل التموين لأنها ضمان نجاح المعارك المختلفة
وبجبل لعمور بالضبط كانت طاحونة للدقيق حولتها إلى مخبأ رئيسي لمختلف الذخائر وكانت الطاحونة وسيلة لصنع الدقيق الذي نطعم به جنود المنطقة . أما المخبأ ذاته , فكان عبارة عن معمل لخياطة القماش القادم من ورقلة .
وفي الفاتح مارس 1957 بعث الأخ لطفي لجنة خاصة للبحث في قضية وفاة الأخ بوشريط يترأسها الأخ المجاهد عيسى من ضواحي تلمسان . ولحق العقيد لطفي نفسه يرافقه من يخلفني وهما الاخوة : النقيب الناصر و النقيب شعيب والملازم علالي قويدر المدعو يوب وكذلك من يخلف مراد وهو المسؤول المباشر على الاخوة : مولاي إبراهيم ونور البشير وبن يوسف بوشريط أيام حياته سنة 1956 وهو الصديق الطيب والاسم الثوري أصمت .
وسلمت إلي رسالة من الأخ العقيد بوصوف عبد الحفيظ تأمرني بالالتحاق بالولاية الخامسة منفردا أو بصحبة جنودي . تأثر الجنود الباقون من ورائي فرموا بأسلحتهم على الأرض يبكون متأسفين على الفراق وفي طريقي مررت بقيادة المنطقة الثامنة لتصفية الأمور المالية تحاسبنا على مبلغ 128.960.000 فرنك قديم قد جمعت بفضل جهود الأخ شداد أحمد و المناضلين .
جمع هذا المبلغ من بلدية بوقطب حاليا وبلدية الكاف الأحمر حاليا وبلدية توسمولين حاليا وبلدية الرقاصة وبلدية الشقيق حاليا وبلدية البيض وبلدية بوعلام حاليا وبلدية سيدي اعمر سليمان حاليا وبلدية سيدي طيفور حاليا ودائرة أفلو والبلديات التابعة لها وبلدية عين ماضي التابعة للأغواط وبلدية امديريسة ولاية تيارت ، ولما وصلنا إلى الولاية الخامسة , التقيت بالأخوة : بوصوف قائد الولاية الخامسة وبن طوبال الأخضر المدعو سي عبد الله والهوا ري بومدين .وفي حرب الحدود سنة 1963 عملت تحت مسؤولية الهواري بومدين مباشرة.
ويختم مذكراته بالقول : إن هذه شهادة مجاهد بسيط من أبناء الجزائر ولكنها نبذة فقط تحاشيت فيها الكثير مما يقاسيه مجاهد شب وشاب في صفوف جبهة وجيش التحرير الوطنيين . إن مثل هذه الأعمال الجليلة والتي تخلد البطولات وترفع الهمم بمحافظتها على هوية الشعوب تتطلب دون شك كثيرا من الجهد مما ليس لي الآن ولكن الفضل يرجع إلى الذين ساعدوني من الشباب من أبناء البررة لهذا الوطن .
فالأمانة….. الأمانة و الصدق…… الصدق .
إن جليل الأعمال يصاغ من الدماء الطاهرة وختامه مسك .
أو ليست ثورة نوفمبر نموذج الثورات التحريرية في إفريقيا والعالم كافة . فلتبق هذه الثورة بمحافظتها على عهد الشهداء الذين كسوا هذه الأرض بدمائهم الزكية . ولتكن جزائر الحرية والاستقلال بصدقها في حق التاريخ آمنة للأجيال التي صنعها نوفمبر 1954 .
فهذا الشبل من ذاك الأسد .
وما أنا إلا ابن لهذه الأمة ؟
فهكذا كونوا أو لاتكونوا
المجد و الخلود لشهدائنا الأبرار
وعاشت الجزائر حرة عزيزة موقرة .
وتوفي المرحوم يوم 08 جوان 1995 و دفن بمقبرة الشهداء ببلدية الرقاصة ولاية البيض.
المرجع : مذكرات المجاهد المرحوم لعماري محمد رحمه الله .